بائع النجوم ، صاحب النهر عبدالغني كرم الله



(شهادة إبداعية)
بائع النجوم، صاحب النهر
عبدالغني كرم الله

(1)

في قرية بلا نور، سوى قلب أمي، والفانوس الزيتي والقمر، ولدت، لصقنا النيل الأزرق، يتلوى من فرط نشوته، كخيط بخور، عند بلدتي، يحيط خصرها الطيني، ينفث مجانا رائحة الطمي طوال اليوم، نشمها دوما، نحن والابقار والزهور، والديدان، شهيق جمعي طويل، نحس بأننا جميعا جزء من الأرض، والزرع، والنهر، والحياة، حيوات عدة، ذات عشرة، ونفع، وجيرة أبدية، ورئة واحدة.

 لا شئ يعيد بريق الذكريات القديمة، وجنة الطفولة، مثل الروائح،، كحبل السيارة، تستل من جب القلب، يوسف الذكريات الجميل، تتأمل بعجب "أنت الآن"، في "أنت الأمس"، في شاشة بالك، ما أكرم سحر هذه الرائحة الغنية، المجانية، كم مرة جلست في ضفة الترعة؟ أو النهر؟ اشم أكسير الطمي، وأحلم بالله، بالجنة، هنا، لاهناك فقط.

 أحسها "قطار سحري"، رائحة الطمي، لن تشمها، حتى توغل بك، بأنس، إلى طينة آدم، لهذا خلقت، وعتقت، تحس معها، بغموض البدء، وشيماء التواضع، حين تقلب جدك الأول، بين الطين الماء، في رحلته العجيبة نحو حاضرنا الغني، تشعر بإيدي عجيبة، ترعى قافلة الحياة من الازل، للأبد، استلها حبل ذاكرة الروائح العجيب، وقد أرسل حبله، إلى جب روحك، فأستل يوسف ذاتك الجميل، في أحسن تقويم.

عند الغروب، نعود من الحقول، حمير في صف طويل بين الزرع، فوقها نحن وخضار، ومعاول، وفواكه، تغرس الشمس البرتقالية جذور نورها في النيل، لا تود فراقنا، سبيبات شعرها الذهبي يهزها موج النيل بنشوة صادقة، كأنها تقبض الماء، ثم النسيم، تقعشر ضفة النيل، أغلى ذهب سائل، على صفحة النهر، والاشجار وحوائط الطين، وأذان الحمير الطويلة، طلاء ذهبي ساحر، يعم الافاق، في عرس الغروب.
 يحمم المشهد قلوبنا، كأن الحياة جبين عروس، مزين كله بالذهب،  تبدو الحياة حلم جميل، جماعي، نشوة غبطة، نشوة حس فلسفي فطري يصيب الجميع، ما الجمال؟ ما النشوة؟ ما الحياة؟ ما الغبطة؟ ما الرحيل والغروب؟ أحساس عذري عجيب، حزين، بلا حزن، احتفاء بوداع الشمس، التي كبرت، وتورم وجهها من ألم الفراق، وأستقبال النجوم في عرش السماء، حيث لغبشة الفجر لحنها، وللضحى لونه، وللظهر سطوته، وللعصر ميزته، وللمغرب قصيدته، ولليل شاعريته المييزة في قلبي وعيني وحسي.

في الليل، نرقد في خلاء الحوش، فوقنا سماء رحيمة، وشاح عظيم، مطرز بالأفلاك والنجوم، وخيوط الشهب الذهبية، تلكم الاسهم التي ترمي سلم الجن، وهم بعض فوق بعض، نحو استراق السمع لما يجرى غد، في لوح الله المحفوظ، اتعجب منهم، ومن اللوح المحفوظ؟ ماذا يخبي لئ غدا؟ ليتها موزة أكبر من سفين نوح، سأطعم كل اهل قريتي، ونملها، وارانبها، وقرودها.

كل ليلة، نتنافس انا واختي على حجز النجوم، كنا أعظم رسماليين في الدنيا، دون مال، نملك "أختي وأنا" النهر وعصافير السماء وافلاك الله في سمائها، أبيع "بنات نعش"، كلها، لأختي، بحلاوة لكوم، ما أرخص سوقنا، أغلى سلعة في سوقنا "القمر"، نبيعه بحفنة تمر، لجدي، لا نفكر في امتلاك الشمس، لا ادري السبب، قد تحرق يدي، مثل جمرة أمي وهي تصنع الشاي في الفجر، لاشئ يثير حيرتي، مثل "الحرارة والنور"، ماهما؟ ربما النور يرى، لكن الحرارة تختفي رغم ضرواتها، مثل لون النسيم، هناك ثلاثة الوان حيرت طفولتي، لون النسيم، لون الماء، لون الزجاج، لون الحرارة، "تذكرت رابعا، لون العطر"، بلا لون، يالها من لعبة اختباء، ليت لي قميصا منها، كي أفعل ما اريد، دون ملابس، وحذا، وطاقية، أيراني نكير وأنا اسطو على بلح خالي؟ ربما تمنيت "نار ابراهيم"، كي ابيع حلق منها للفتيات، نار ونور عند شحمة الاذن، بلا أذى، بل برد خفيف عند حلمة الاذن.

كانت جلسات جدتي، ونحن نجلس تحت قدميها المحننة، لصق "مركوبها" الأحمر المصنوع من جلد الماعز، هي ملاذنا في المساء، حين تحلق بنا بالاحاجي في افاق من الخيال النقي، ننام على الارض حولها، تدغدنا كالعادة، رائحة الطمي، وفي الصبح نجد انفسنا في العناقريب "أسرة من جذوع الاشجار"، ممسحين بزيت السمسم، من فعل ذلك؟ حسن الشاطر؟ أم فاطمة السمحة؟، خرجوا من الحكاية وحملونا بحب؟ كم نجهل عظمة الأم والجدة، والناس اجمعين، وابطال الأحاجي، حيث القوى السحرية في عضلات حسن، والجمال العذب في قلب فاطمة، ووجهها، من حملني من الارض للسرير؟ فاطمة السحة وشعرها الطويل المعطر لامس جبيني؟  خرجت من الحكاية وحملتني لا محال، كل شئ ممكن في عينيي، حتى الاستحالة، نصدق كل شئ،  بدين براءتنا الفطرية، كأبي بكر وحديث الاسراء، والمعراج العجيب، وأكثر.

هل رأيتم قطرات المطر، التي تتحاشي وهي تسقط من عل ملابس دمور الطفلة؟ تمور حياة قريتي بنبض غريب، عجيب، نسكن مع الاسطورة والواقع والخيال في دار واحدة، نسمع كرامات الاولياء، ومعجزات الدروايش، واهل الخطوة، حيث لا مسافة عندهم، يسافر كل منهم، في لمح البصر لأخر الارض، فكنا نحلم بهم، ونحلم ان نكونهم، حتى قطرات الماء، في المطرة الغزيرة، لم  تلمس جسد الطفلة المباركة، حين ارسلها جدها بعد ان ملأت له ابريق وضوء صلاة العصر، للبحث بين المقابر عن ميت، وسؤاله اين وضع أمانة التاجر، الذي استأمنه في بضاعته، حين سافر للحج، ورجعت الطفل سعيدة، وقد دلت التاجر على بضاعته، والتي وهبها للفقراء، وصار من عشاق القرية، وسحرها، وغرائبها اليومية، هنا ولدت، وحبوت، مشيت، ولعبت، مثل هذه الفتاة، التي زاغ منها رذاذ المطر.

قيل بأني اصنع المرح، حيث اني أصغر الأسرة، "أضف"، لساني ألجن في الحكي، حتى اني لا اعرف نطق "لالوب"، سوى "نعلوب"، كما اني أنطق اسم اختي "محاسم"، مبدلا النون ميم "محاسن"، أما نطق تشيكوسلوفاكيا، "أحمد الله انها انفصلت "أعني تشكيو، عن سلوفاكيا وكفى الله الاطفال شر وعسر نطقها"، فقد كانت اعسر امتحان افشل في نطقه رغم الحافز "موزة كهلال رمضان"، ومع هذا كنت سعيد بضحك الناس من عجزي عن النطق "أي أدخلت البهجة في النفوس والملامح، حتى الكراسي وطربيزنا الخشبية تضحك من نطقي "شوفو فاكيا"، أليست هي تشكيوسلوفيكا؟ الخالق الناطق؟ عند لسان الصبي!! .

 لساني طويل رغم لجنته، اقلد جدتي، وازيد في الحكايات، وأنقص كما يشاء خيالي، ومن حينها احببت الحكايات، وعوالمها السحرية، فسرت ضحكهم اعجابا، مثل الضفدعة الطرشاء، أتذكرون قصتها؟ التي وقعت في البير مع مجموعة من الضفادع، وهي وحدها التي قفزت للأمان، حين تصورت هتاف اخوتها في الاعلى تشجيعا "وليس لن تصعدن، لا تتعبن المسافة طويلة"، حسبته فتنة لحديثي، حيث الطفولة جنة براءة بلاحد، تحسب نفسك بطل الحياة برمتها "ما اعذب ذلك، ما أجمل ذلك"، كما انك نتحدث  بألف لغة، مع الحصى، ونغضب من المعزة، ونغازل شجرة السدرة، انطقنا الله، الذي انطق كل شي، ثم تهمد لغاتك العجيبة، مع كل عام يمر، بعيدا عن طفولتك، نحو الرجولة.

شاء القدر ان يحب اخوتي الكبار الحكايات والادب، في الدار الطينية البسيطة، هناك مكتبة، ومرسم، وأحجار ملونة، ومجلدات ضخمة، كنت اقرأها قبل دخول الروضة "كنت احسب الفرجة قراءة، والويل لمن يقول عكس ذلك، كنت اتقرفص على الارض، افتح المجلدات الثقيلة، صفحة وصفحة، كثيرا ما أوريها بلعابي، حقول صور، ورذاذ دهشتي منن سعة العالم، تنوعه، جماله تلونه "ناقة بسنامين، وجدة كبيرة بالجنز، وبنطال "وجدتي لم يرى السقف راسها عار"، نبات فلفل بلون بنفسجي، أناس تعيش في كوخ خشب فوق النهر، ما أوسع العالم، ما أغرب الواقع، أي خيال بشري هذا؟، أجمل من فاطمة السمحة، وأقوى من حسن الشاطر، أفكار واحلام وحيوات مجسدة في المجلد "سيارات، قطارات، عمارات تنطح السحاب"، يا ألهي؟ أي رحلة للفكر البشري، وأي جمال لخياله الطروب؟ يسرح الطفل وعند حجره مجلد أضخم من شاهد قبر، كم عذب هذا العالم وغني "يتنهد الطفل وقد نام قرب مجلده، لا حد لسريره، كل الارض لحافه الاسمر، نائم ويدي مكورة، وذهني محتار، من 44 حذاء؟ وصفحة المجلد مفتوحة على حشرة لها أربعة وأربعين رجل "كم مرهق أبيها في العيد، أيشتري لها كل هذه الأحذية؟.

أي سحر هذا؟ أنها المكتبة، بين رفوفها، الخشبية وجد الأموات احياء، هناك نجيب محفوظ، والطيب صالح، وهميروس، وشهرزاد الف ليلة، وليلة، توفيق الحكيم، وتشيكوف، وارسين لوبين، وهتشكوك، رسومات فان جوخ وابو الحسن مدني، ورسوم اخوتي، نشأت محب للرسم (أهناك هواية للطفل تفوق التقليد؟)،، والشخطبة في كراسة الارض، متخدا من جدار دارنا الكبيرة لوحات بالفحم، ارسم الابقار دون قرون، واطول ذيل المعزة كالنعجة، حرا في مخلوقاتي، سرياليا قبل بريتون وبيانه الشهير عن السريالية، فكم رسمت الكعبة المشرفة، في دار كل زائر للبيت المكرم، وكم رسمت القبة النبوية الخضراء الجميلة، على أعمدة البيوت وفوقها طيور سعيدة، وكنت احب رسم التمساح، فاغر فاه، لا ادري لم، أهو سحر حذره؟ كما رسم جدودي في كوش الحيوانات الضارية على جدران الكهوف؟ كل شئ ممكن في قلب الطفل، أيلدغ المؤمن من جحر مرتين؟، مرة في الرسم؟، ومرة في الواقع؟، يكفي فكه المفتوح في رسمتي، ما أعجب اسرار الفنون، والحياة.

هل رأيتم شجرتي؟ شجرة القروش، كنت اظن ان القروش تنمو، وتزرع، كل يوم اغرس "شلن"، في ركن الدار، واسقيه بحرص كل يوم، كتي تنمو وتزهر وتثمر شجرتي، مالا فوق مال قارون، واشتري شاحنة حلاوة لكوم، شاحنة نبق أخرى، "وترلة" طحنية، أسعد طفل في القرية، ولكن للاسف كان اسعد طفل هو أخي الاكبر، الذي يستل الشلن بعد غرسه، ويتركني اسقي شجرتي في انتظار احلامي، "اوراق شلن، وطرادة، وجنيه" وأظنني لليوم أسقى شجرتي، لكن شجرة الخيال، في انتظار كتاب لطيف، يصعد من جذورها الوفية.

قدماي لاتمل المشي، ألبس جوارب غبار ناعم، تعلق في قدماي العارية، عند وادي الباجة وخور الدفيسة، احب السياحة بين القرى، والنهر، والترعة، وغابة السنط، رحالة صغير، في بلدة آمنة، كنت لسان الحي، ومذياع البيت، منظار الناس لماوراء قريتي الصغيرة، لما يجري في القرى من عرس وفرح وترح، أو ضياع دجاجة، أو فقد معزة، أو حلق ذكر، أو زف عروس، فأنا من احكي الحدث، وانقل الصورة، لأهلي، وصحبي، سعيدا بهذا التنصيب الفطري، لنشرة أخبار عفوية، تجعل النفس تلم بما يجري حولها من حياة، واخبار واحداث، رسالة بريد، قبل ثورة الاتصالات المعاصرة، من الصعب تصور "أسى"، ضياع دجاجة، في قلب طفل، وفي قلب صويحبتها، (فكم عثر الرحالة الصغير على عنزة في الخور، أو دجاجة في الخلاء، وكم اكرمه اهلها بعصير ليمون باااارد، وملء جيبه السعيد بالبلح)، لكن هل رأيتم الدجاجة وهي تطعم السواسيو فجرا؟ وهي الجائعة؟ تؤثر ولو بها خصاصة، أهناك رسالة أمومة أعظم من قلبها الصغير الكبير، وهي لم تقرأ الانجيل، أو البخاري، كأن الضمير والحس الديني فطرة، في الاحياء والاشياء.

أظن اعذب مافي دراستي الجامعية، هي مخيمات البحث عن الارض والجبال والزلازل، وطبقات الارض، حيث درست الجولوجيا، فكنت اسوح بين الجبال، متأملا سحر [كراسة الارض]، فكل طبقة من الارض، هي كتاب عن حيوات عشات وانقرضت، تسليم وتسلم في سلسة عجيبة، من الطين، ثم العشب، ثم الحيوان ثم بني أدم [ذكاء اعداد تعاقبي، بترتيب طبيعي فذ]، لو سبق الحيوان العشب؟ ماذ يأكل؟ كم ذكي عقل الطبيعة، وشاعر "خلق امي والفراشة والموسيقى والحيرة".

في تلكم المخيمات، في عزلة الليل اتامل النجوم، خيمة صغيرة بين الجبال، نبقة امام بطيخة، أحس بصغرنا، بجلال الكون العجيب،  كم حرمت المدن ومن خطها، من فن السماء ووشاح النجوم اللانهائي "لا حد للكون؟ لا حد للزمن؟"، نفث فلسفي فطري يغمر الروح، يزيده صوت الحياة الفطري العذب، حركة عصفور، صرير خنافس، تنشد غموض الحياة، اقارن كل هذا، مع سجن المدن، ضجيج السيارات وعلو العمارات، فلم يعد الغروب هو الغروب، ولا الشروق هو الشروق، اليس الغروب شاعر؟ يسقي فكرة الحنين والرحيل؟ والشروق؟ لك حرية الاحساس به، تحس بعجلة الثورة الصناعية، ولم لمت حضارتنا الناس في فج واحد، وأرض الله وااااسعة.

كتبت للكبار في بدء أمري، حكاية "آلام ظهر حادة"، اظنه سيرة ذاتية فكرية، لشاب يجهل الحياة، ويتحسسها، واظنني كنت محظوظا مع النقد، مما شجعني للمضي في الكتابة، فكان شقيقة [شلن]، [وأسد في الحافلة]، كما اني كتبت عن امي، بعض من سيرتها، في حكاية بعنوان "القلب الخشبي"، ترجم للانجليزية، كما كتبت عن قريتي وعوالمها "من حمير، ودجاج، وكلاب"، مجموعتي القصصية الأولى "رائحة الطمي"، [ترجمت هي الأخرى]، وأخر قصة منها ترجمت قبيل شهر في دولة نامبيا، "فتأمل علاقات الكتابة"، وهي حكاية "كلبة فاطمة".

ثم جاء الفرج من الله، صدفة، ولا صدفة، حين طلبت مني آمنة الصغيرة، ابنتي، وأخيها محمود، أن احكي لهم حكاية ونحن في قلب الليل، فجال خاطري فيما أحفظه من حكايات، ثم بغته قلت لم لا احكي لهم من رأسي، من خيالي، وقد كان.

لحظيات عجيبة، بين عقلي وعقلي الباطني، من أين تنجب الحكايات؟ أحسست بحلم، تراءى في ذهني، لو تعلق قلب امرء بالثريا لنالها، وقلت لهم "كانت هناك فأرة جميلة، تسمى "ميسون"، تنافس في خطبها فأرين، جدو وتكتوك، وفاز بها الأول، أراد يريد ان يقيم عرسه في أكبر صالة في المدينة"، ثم جرى خيالي لتصور الصالة، ومكتب تأجير الصالات، وصاحبته الماكرة "الارنب"، حيث اجرت لهم....... لهم...." فيل"، فتم العرس تحت الفيل، وجرى ما أجرى، واصروا ان احكيها، مرة، خمسة، عشرات المرات والغبطة تعم وجوههما الطفولي المنير، تلكم كانت البداية، مع عالم الاطفال، الذي ظل يسكنني للأبد.

كانت تلك حكايتي "عرس ميسون"، التي حكيتها لاحقا في غاب فازوغلي، جنوب النيل الازرق، عند حدود اثيوبيا الصديقة، لأطفال سمر، مرهفي الحس، قالت طفلة صغيرة "تيستو"، "يعني مافي امطار ملونة الخريف المقبل؟ حين ادركت ان الخرطوم الذي شرب العصير ليس للسماء، بل خرطوم الفيل، وادركت حينها لم يصدق الاطفال الخيال، وتلكم اعظم فضيلة، وأعظم هدية للكاتب، أن يعيش الاطفال خياله كواقع، لأنهم احبو "تكتوك"، المتسامح، الذي رفضته العروس، ومع هذا حل للناس مشاكلهم، حين قذف الفيل العروس اعالي السماء، عقلك في راسك تعرف خلاصك، فعادت العروس للارض سليمة، سعيدة "حتى البرد بين السحب، ارسل لها جاكت برتقالي"، يفكر في كل شئ، لكل داء، دواء..

هل قلت حدود اثيوبيا؟ بلى اثوبيا، ذاتها، كتبت عنها نص للأطفال، اكثر دولة اهلها مقيمين معنا، اسمه (كم نهر يتدفق من اثيوبيا؟) اثنان؟ النيل الازرق ونهر عطبر؟ لا، إنها خمسة انهر "رغم ان الحقيقة غير ذلك"، هناك النهر الاسود، والنهر البني، والنهر الاصفر، كما قالت الطفلة في حصة الجغرافيا، وهي تحذر الاطفال من لمس النهر الاسود بيدهم، بل بفنجان، "فلم يكن سوى نهر القهوة التي تتدفق من التلال الاثوبية لوجدان الشعب السوداني، "هناك معماري، وفنانة تشكيلة، حلقت بهم القهوة"، فصنعوا عمارة، ولوحة تشكيلة تسر الناظرين، أما النهر الاصفر، فهي الموسيقى في عهد اكسوم، التي حجت لأذان مروي، عشرة طويلة، وتبادل ثقافي ووجداني ونساني بينا، واقتصادي، ليت كل دولة، تمسك بيد الأخرى، في حفل افريقيا، وعرس العالم، ونرقص للحياة.

ثم جاءت الهدية الكبرى والتكريم الأعظم، بأن ما اصنعه له جدوى، كنت اسير مهندم في طرق حي الازهري الشعبي، وبعد سبعة شوارع من الدار، أقبلت طفلة، كانت تجلس تحت حوض شجرة مبلول، اقبلت نحوي متهلهلة بشووووشة، احتوت ركبتاي بيدها المحننة بالطين، وهي تصرخ "بابا غني الطماطمة"، هل تغير اسم ابي، من كرم الله، لطماطمة؟ يا الهي، انها قصة [طماطمة وادي قولو]، حكيتها لأطفال في روضة قربنا منذ سبعة أشهر، تحايلت كي اعرف اسمها "سوزان"، دخلت دارهم وشربت شاي جميل، وشعر قلبي بالرضا، وحكت الطفلة حكاية الطماطم لأمها، واخواتها والشجرة قربنا "الحمدلله"، شعرت برضا، حقا..

هذه الحكاية، ولدت في سجن شالا، حين اعتقلنا شهور، لأننا قلنا لا للظلم، والجور، هناك وجدت خلوة طيبة، رغم احزان الحبس، من دوامة الحياة العصرية، فكتبت الحكاية، ورسمتها على جدران السجن، "كم مرة حكيتها للمساجين؟ لا  ادري، ورب الحكي، من قال ان عمر الاطفال يقف عند حدود ال 18..؟ وهولاء يتجاوز عمرهم ال80ـ بل 82، حيث كان عم سعد اكثرهم طربا للحكاية وعمره تجاوز الثمانين،.

في الطريق إلى المدرسة، كان هذا عنوان محاضرة ومسامرة مع طالبات مدرسة الخرطوم النموذجية، بنات، كيف نجعل من الطريق للمدرسة، نصا؟ كيف نتأمل طفل يسحب أمه كي تشتري له لعبة [طبخ] وهي لاتملك روشته الدواء؟ "كل ذلك من خلال نافذة حافلة يومية"، كيف ننظر لباب قديم مزخرف، وأول من دخله وأخر من دخله؟ كيف ننظر من نافذة الحافلة، لحافلة عكس الاتجاه، وندرك بأن لنا علاقة بهم اجميعا، (في احد الكراسي والد معلم درسنا، أو كرسي جلست عليه صديقك قبل اسبوع، أو "جنية" كان في حقيبتك، ثم اشتريت به رصيد فاستقر بعد رحلة في جيب راكب فيها"، كل شئ له علاقة بنا، حقا لا مراء، وكيف ندرك ان الطبيعة تكره الفراغ، فكل ذرة تمسك بيد الاخرى، إلى ما لانهاية، هذه المحاضرة البسيطة، جعلتني احوم مدراس ثانوية عدة، مدرسة التميز، مدراس القبس، مدرسة اركويت، مدرسة المهدية بامدرمان، مدرسة الأم بنات، جامعة النهضة، جامعة السودان، جامعة الخرطوم، جامعة كرري، جامعة السودان العالمية، جامعة المغتربين، لا لقهر النساء، منتدى نوار الثقافي، مكتبة الدلنج، ساحة الاعتصام، كيف ننظر للعالم حولنا ككرنفال للحكي، ونبع للجمال، حيث الواقع اغرب واعجب من الخيال.

في اصلاحية الجريف للأطفال، ضحك الاطفال من طفل يمشي للوراء كي يكتشف نور ذاكرته، حتى حوش الصالون، أو ينظر لقفى التلفزيون، وليس شاشته، حين رأى التلفزيون اول مرة في حياته "كيف عرج الناس إلى داخله؟ وكيف اصبحو صغار كاقزام؟ وكيف ركب ظهر امه كدابة، وكيف مضى لمدرسة تبعد عنه اربعة كيلو متر كل يوم، حافي، مثابر، حالم، رغم الشوك والحسكنيت، وكيف رسم على جدران الفصول الدورة الدموية، وخريطة الهلال الخصيب، وخارطة السودان، ونهر النيل "حين رسم النيل، منع الصيادين من قتل اسماكه"، وتوضأ للحب من امواجه في الورقة.

احب الرسم، النحت، كل حكاياتي رسمتها، وجسدتها، ألا تحب البشرية التجسيد؟ فما بالك بالطفل الكلف بلمس كل شئ، وشمه، وتذوقه، ولو صابونة، فصنعت عوالم من حكاياتي بنحت الطين والورق والخشب، "حبة رمل اصبحت عين فيلي الطيني، ولا محال عود الثقاب المستعمل هي نابه الغالي"، كما اقمنا ورشة "رمل"، في مركز راشد دياب، أخبرنا الاسر قبل يومين "نريد ملابس لعب"، فكم صنعنا من قطاطي، وحفرنا مجرى للنيل، وصنعنا سدود، "نبني وتهدمها الرياح ولا نضج ولا نثور"، حيث الانامل البشرية الذكية، التي تخلق من الطين كهيئة الطير، كعيسى عليه السلام.

اقمت عدة ورش، منها مثلا، ورشة "حجيتك"، مع المركز الثفافي الفرنسي وبيت التراث، عن استلهام التراث في الحكايات، وورشة السلام والتسامح مع عديلة في مدارس اركويت، ورشة السلام مع مبادرة الاطفال، ومعهد السلام الاردني، وورشة "نهر النيل"، في مركز راشد دياب للفنون، وورش للأطفال في قرية الأطفال sos...

مسكون باسئلة من أنا للأن، ايكف الطفل داخلنا عن الاسئلة؟ لذا، كانت لي مشاركات مختفلة، في شئون ثقافية، واجتماعية، وفلسفية، وسياسية، جرت في مركز الوافر، جوته، الفرنسي، مركز الجنيد، مكتبة عم سيف، مكتبة المركز الفرنسي، منتدى اليونسكو، جامعة الرازي، وعبر الزووم، ومكتبة بحري، وجائزة غادة للأطفال، كلها تدور عن من نحن؟ هويتنا، المخرج؟ لم نحلم؟ وأين يقف التطور؟ وهو الذي يشد عند المنتهى الرحال؟ اظن ثورتي هي "الحلم"، ضد اي ذاكرة، وماضي، مهما تجمل، فهناك "الأجمل" وأحكم صنع في جرم الانسان "الخيال الخلاق"، الذي يوظف قوى وغنى الطبيعة، نحو الأجمل، الأسعد، الأزهى. 

حكيت الكثير من قصص الاطفال، في حديقة الكلاكلة، الساحة الخضراء، مدارس القبس، البلونايل، وفي عدة مدن سودانية "الخرطوم، عطبرة، الدمازين، الدلنج، الفاشر، الجنينة، لا اكذب ان قلت لكم احفظ للأن وجوههم، عيونهم، بل ومكان جلوسهم حولي "لا يشقى جليسهم"، نورهم يفتك بأي ظلام نسيان، حين يشرقوا في ذاكرتي، كلهم، طفل طفل، وطفلة طفلة. 

شاركت في وضع المنهاج لرياض الأطفال، وصغت عدة حكايات تربوية، ونحن نتأمل "سهم الطفل"، المنطلق منذ آدم في الاصلاب، بقوى واتجاه معين "نحو موهبة قدت فيه، نجار أم مهندس، أم رسام"، ولكن هل الرأي العام، والتربية ومنهاج الدرس، تلحظ ذلك؟ أم تحيل شجرة المانجو في حقل قلبه، إلى شجرة جوافة؟ ونخسر الاثنين معا، لا مانجو، ولا جوافة؟ بل هجين مقيت، لذا حبكت حكاياته تربوية "صح، غلط"، وتجريبها في ثمانية رياض حول درانا، هي مختبرات تجريبي الأول للحكايات، وتحديد سن الفئة المستهدفة،.

أنا على يقين، أي طفل عبقري، أن وجدت بيئة عبقرية، تعنى به قبل ميلاده، أي توفير مناخ سوى، عادل، حتى تكون امه، وابيه اقران حب وفهم، لا املاء حاجة ورغبة ضرورة، وحتمية واقع، وحين ينشأ جزء من شقيه في سعد فطري، الحيوان المنوي، والبويضة، حتى يستقر في رحم أم محبة، وأب عاشق، تلف سنته الأولى، والأهم "سنة الرحم"، دفء أمان، وموسيقى سكينة، وغنى قوت.

أكاد اربت على كتف برنادشو، الذي قال "لا يوجد طفل ذكي، وطفل غبي"، لكن توجد ظروف غبية، وظروف ذكية، مع ايماني بالمواهب الفطرية، التي قدت في جرم كل طفل.

شكرا ابن العربي، سأختم شهادتي بحديثك الغني، عن مطلق إنسان "وتحسب انك جرم صغير، وفيك انطوى العالم الأكبر.

.ـــــ
الجزء الأول، يليه الثاني، باذنه...



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

السحر بين الحقيقة والاكاذيب10

جبل النخرة حاضنة أمهات القري بقلم يوسف محمد عمر